بداية هذا اليوم كانت مختلفة تمامًا في مجال دراستي , اليوم يجب أن أحقق جزءًا مما تعلمت خلال السنوات الماضية , اليوم هو تطبيق لا أكثر , اليوم هو انطباقُ كل ما درست على رأسي لأخرجه خلال سبعٍ لسْنَ بموبقات إنما سبع دقائق .
كان هذا اليوم يحمل أول اختبار عملي تطبيقي لي في حياتي الدراسية الطبية .. ابتدأته من الأمس بين كومةٍ من الكتب و الأوراق و كثير من الأقلام و الألوان و أكواب الشاي و القهوة حلوةً كانت أم مرة .
عند السابعة صباحًا كنت على جهازي أتفرج بعض الفيديوهات علّها تساعدني في استذكار بعض مما درسته خلال أسبوع أم سنة أم ترم لا أعرف .
داهمني الوقت و إذا بالساعة تشير إلى السابعة و النصف .. بالرغم أني أجزم أن الفيديوهات كانت تعليميةً بحتة .
هرعت إلى حمامي الدافئ سريعًا و لبستُ كامل هندامي و أنهيتها ببخة عطر لعين الأطباء ..
أن تلبس ساعة ذات عقارب لا تلدغ أمرٌ مهم و لكنني اكتشفت أن ساعتي قررت التوقف عن العمل ليتوقف الزمن لبرهة ثم أقررت أن لا ضير من بعض التمثيل .
جاهز ؟ انطلق ..
لحظة نسيت سماعاتي الطبية ارجع و إلا أنا في ورطة ..!
الساعة تشير إلى الثامنة و خمسٍ و أربعين دقيقة , يجب أن أبدأ الماراثون مع السيارات حالاً .. و لكن بطني يخبرني بأن بضع إفطار لا ضير فيه أبدًا ,
السيارات تلتصق بي من كل ناحية حتى وصولي لمواقف المستشفى الجامعي .
كل من رأيته هناك كان بكامل أناقته الطبية و البعض مثقل بكثير من المعدات الحربية .
أول من قابلته كان شخصًا من طلاب السنة الخامسة ..أتفاءل به دومًا و لكنه هذه المرة نظر لي بنظرة شفقة و عينه تنطق "كم أنت مُحزن "
- مستعد ؟
- أبدًا , ربكة و قليلٌ من التوتر
- كن واثقًا و كل شيء سيسير على ما يرام .
هذا ما قاله حتى تسابقت خطواتنا للمصاعد المطلية بالذهب ..
نزل في الطابق الأول ليربتَ على كتفي "بالتوفيق" و كأنه يقول "حـ تاكلها "
بقيتُ في المصعد حتى الطابق الرابع مع رائحة عطرية باذخة في الجمال لطالبة تمريض -أعتقد أنها كانت سببًا لزهزهتي قليلاً -
اختفت الرائحة العطرية و تحولت إلى روائح فم كريهة نعم وصلنا إلى الطابق الرابع حيث المكان المنشود و التجمع المخنوق بكم هائل من الطلاب .
و استقبلني ثالث أطيب شخص في مجموعتي -لستُ أنا الأول بالتأكيد-
هشام :
بعد الأحضان و التحية على جوانب الخدين و السؤال عن الحال , أخبرني برغبته الملحًة في الرقص أو كما قالها "شكشكة"
لم أتفاجأ أبدًا من شخص قضى أسبوعًا بين صفحات تيلي أن يطلب مثل هذ الطلب العجيب , فقلت : الوضع جيد لذلك لديك سماعات المستشفى -تصرّف- !
"
-شفت الشيك ليست ؟
- مدرّك الكارديو ؟
- فكيت الريسبايراتوري ؟
- تعرف تاخذ هيستوري بالانجليزي ؟
- ايش هوا كم ستيشن ؟
-تخيل يجيك دكتور فلان !
"
سُئلت هذه الأسئلة لـ مئات المرات و كل مرة كنت أجاوب بمنطق مختلف , الطلاب في حالة فزع و هلع عجيبة .
في الحقيقة كنت أبتعد عمّن يكثرون الأسئلة , و أبحث عمّن يعطوني طاقة إيجابية أين هم .. ؟
أوه جعفر واقف في الركن هناك , استقبلته بالأحضان
أعطاني "الشيك ليست " و أخبرني اطلع عليها و لا تنسى أن تغطي كذا و كذا و كذا
لحظات و أتانا غيث / عمرو / عبدالله
"العناق كان لا بد منه ليعطي كل شخصٍ منا جانبًا من طاقته للآخر" .. كما قالها - غيث -
بعض السفاسف من هنا و هناك من كل جزئية حتى تعبنا و تفرقنا .
إلى أن جاء صوتٌ مخيف أشبه ما يكون بـ الزلزال .. تلك هي سكرتيرة القسم تصرخ بأعلى صوتها المختنف :
" الأسماء ترتيبها أبجدي و في اكس و في واي كل واحد يشوف اسمه "
كعادة الدفعة التجمعات جهة الكشوفات و كأنها توزيع رواتب من الحكومة , انتظرنا حتى أعلن قائد الدفعة أن لكل شخص رقم معين سيدخل به الاختبار و تم توزيع ثلاث ملصقات بأسمائنا اثنان للاختبار و الثالث لم يكن للذكرى بل للاختبار النهائي - لا أعرف إن كانت آلة الطباعة لا تطبع سوى ثلاث نسخ - !
" رقمي 35 , أنا أتفاءل بالأرقام الزوجية عادةً لكن لا بأس "
بدأ الإعلان للدخول للاختبار / اتركوا الحقائب و الأمتعة .. اجمعوا الأجهزة النقالة ... الخ
لا أدري لم تتوارد لدي إجراءت السفر في المطارات في مثل هذه اللحظات حتى خلت السكرتيرة تقول : اترك الحذاء ثم اقفز على الزلاقة !
توجهنا بعددنا أفراد الجناح اكس الخمسة و سبعون رجلاً و أماتونا في صندوق حقيقةً
خمسةٌ و سبعونَ نَفَسًا في غرفة لا يتجاوز طولها خمسة أمتار و عرضها أربعة أمتار
إزعاج - حر خانق - روائح كريهة حدث ولا حرج !
حتى دخل أحد الأطباء و معه سكرتيرة أخرى كانت لطيفةً حقيقة مقارنة بغيرها كما مضيفات الطيران .. نعم توارد لي مرةً أخرى نداء الطيران / في حالة الاختناق ستسقط أقنعة الأكسجين من الأعلى شده إلى أسفل و من ثم ساعد من بجانبك ..
إلى أن جاء الفرج ,
أول ثمانية أسماء -ضحايا- من الكشف سيدخلون الاختبار
ثمانية تتلوها ثمانية و التوتر يزداد , العقل مقفل مع كثرة المراجعات و الثرثرة و هوس البعض المقيت
كلمة لا أنساها لـ غيث أخبرني إياها عند التبلد العقلي : " علي !! انت قادر تجتاز كل المحطات , انت حتسوي كويس لأنك ذاكرت كويس و لأنك سويت اللي عليك , و على قد تعبك حتجيب و أكثر , علي انت قدها "
حاولت أن لا أسقط عيني من عينه و أبقي تواصلي البصري حتى تبقى الرسالة للعقل الباطن , نعم أنا قادرٌ على ذلك .!
حتى جاء دوري ..
لحظات انتظار أخرى و لكنها قصيرة بالخارج تحرسنا ممرضتين من الجنسية الفلبينية يتراقصن رقصة التانقوعلى نغمات جرسٍ غريب و كأنه إنذار خطر أو سرقة شيءٍ ما ..
"
اللي يدخل بي 1 يروح بي2 و هكذا
"
"
صليت على النبي و آله و توكلت على الله و دخلت في الممرات .. حقيقةً تهت كل الغرف امتلأت أين أذهب ؟
إلى بي1
نعم B حرف يجلب التفاؤل ,
دخلت و ألقيت التحية على دكتورٍ أشبه بميت و ممرضة عجوز شمطاء مصبّغة بأحمر شفاه فاقع اللون لا تفقه شيئًا ..
رحتُ أسألها في دوامة مندرجة تحت أسئلة ألم البطن .. كانت لا تعطيني إجابات كافية و استجابتها ترفع الضغط قليلاً ..
مرت لحظة صمت بعد أن أنهيت أسئلتني لها حسب اعتقادي و لكنها كانت تحاول أن تحرك شفتيها لتكمل لي .. لم أفهم ما أشارت إليه رغم إلمامي باللكنة الفلبينية .. و الاندومي !
انتهي الوقت المزعوم بسبع دقائق - أقل بكثير-
شكرتها و انصرفت بابتسامة خافتة .. أنا سعيد لم أرتبك !
المحطة التالية كانت للفحص ,
كنت أتحرى هلال العيد القادم لي لا أعرف لماذا ؟!
ألقيت التحية و رحت أغوص في ورقة السؤال و إذا بعامل شرق آسيوي ملقًى امامي كجثة هامدة
قمت بعمل الفحوصات كان مريضًا متعاونًا لحد ما و لكن ترتيبي كان يرثى له ,
الطبيب كان متعاونًا و أشكر له ذلك كونه ساعدني في إدراك الوقت الذي انتهى بتعداد ما تبقى لي ..
صاح الجرس الخبيث و كأني سقطت من أعلى إلى أسفل ..
سلمت على الدكتور و تركت المريض مكشوفًا عاريًا و لم أشكره !
يا إلهي لقد أنهيت هذا الكابوس .. أنا الآن مستيقظ .
حال خروجي قابلت عمرو :
"طبيــــخ طبيـــخ طبيــــخ "
قالها و ظننت أنه سيعطيني كعكة احتفاءً بهذا الإنجاز العظيم و لكن على ما يبدو أنه طبخ أمرًا آخر مشيدًا بذلك لعدم تغطيته كافة المتطلبات
بين شدٍّ و جذب و نقاشات بين الفرحين و المختالين و البؤساء و قصص الأطباء و المواقف الطريفة كنت حقيقةً لا أفكر سوى بفراشي العزيز , و كيف أصل إليه و أعد الساعات للاختبار النظري و هكذا
تجربة الاختبار العملي في المستشفى الجامعي كانت أشبه بغيمة لا تعرف هل ستمطر أم ستثلج أم ستجلب رياح مثيرة للغبار كما اعتدنا هنا ,
لكن الحمدلله كأول تجربة خرجت راضٍ تمامًا عن نفسي ,
زادت ثقتي بقدراتي و امكانياتي التي لم أطبقها على حياة الواقع
أعطتني فرصة لأكتشف نفسي أكثر ,
أنا الآن في مرحلة تعزيز لهذه القوى و لا بد أن لا أخرج من هذه السنة إلا و أنا ملم بها جميعًأ .
ثرثرة كنت أريد أخرجها لا أكثر ,
لكم حرية مشاركتها :)
هههه , أستمتعت كثير وأنا أقراها ,
ردحذفلانه ببساطه جربت هذا الوضع وعشته بكل لحظاته
الربكة و الخوف وجفاف الحلق والمعلومات الي تبا تمسكها عشان لاتهرب منك ونبضات القلب الي قبل ماتدخل ع المريض أحسها تفضحني ومزعجه الكون قد ماهي مزعجتني
بعد كل هذا النفس العميق و الـ"أوووه" الحمدلله أنجزت وسويت إلي عليٌ والله يخارجنا $ .
متابعة لك +1
فعلاً هذه التجربة بقدر ما هي غريبة بالنسبة لي كونها كانت الأولى طبعًا
ردحذفإلا أنني أضحك الآن بعد التجارب التي أتت بعدها .
شكرًا لكِ نتشرف .